د. عبد القادر بخوش بسم الله الرحمن الرحيم
إن نزعة التديُّن نزعة مغروسة في أعماق النفس البشرية، فالغريزة الدينية مشتركة بين الأجناس البشرية حتى أشدها همجية وبدائية، وإن التطلع فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة الإنسانية، لقد وُجدت جماعات إنسانية بدائية من غير علوم وفنون وحضارات ولكنه لا نكاد نعثر على جماعة بشرية بغير ديانة.
فالدين ظاهرة إنسانية عامة شاملة ملازمة للإنسان حيثما وجد، أقرت به معابد وأهرامات ودور مقدسة، كما شهدت به بقايا ما قبل التاريخ بما حوته من نقوش ورموز وآثار ذات صبغة دينية.
إن المتتبع للظاهرة الدينية عبر التاريخ ليجدها أكثر تعقيدا وتشعبا، تتشابك فيها مفاهيم عديدة تختلف من دين إلى آخر، يتعذَّر فيها حصر الدين في قالب واحد دون الإحاطة بكل الأديان ومعرفة ماهيتها وخاصيتها.
ولقد نرى كيف انعكست الحيرة في تعريفات الدين على المحاولات العديدة التي بذلت لتأسيس مفهومٍ صحيح له، محاوِلةً أن تراعي المقومات الأساسية المشتركة في كل الأديان وتراعي عدم الالتزام بدين معين.
وتتخذ مسألة التعريف خطورتها عندما يكون لها تأثير سلبي على إرساء قوانين دولية تحاول أن تصبغ جميع الأديان بصبغة واحدة، ومع الكمِّ الهائل من الاقتراحات التي قدمت لحل مشكلة تعريف الدين بما تتفق عليه جميع الأديان إلا أنها ما زالت بعيدة عن تحقيق المراد من إرساء إطار مشترك تجتمع حوله الأديان1.
الدين في الفكر الإسلامي
يجدر بنا في البداية أن نتتبع كلمة الدين في اللغة مما قد يفيدنا في إعطاء صورة عامة عن الإطار الذي تشكلت في ضوئه جملة التعريفات المختلفة للفظ الدين في الفكر الإسلامي.
تنطوي كلمة الدين على معانٍ عديدة ومتشعِّبة حتى يبدو لك أنه يستعمل في معاني متباعدة بل متناقضة، فالدين هو الملك وهو الخدمة هو القهر هو الذل هو الإكراه هو الإحسان هو العادة والعبادة وهو السلطان وهو الخضوع هو الإسلام والتوحيد وهو اسم لكل ما يُعتقد أو لكل ما يُتعبَّد به2.
وتبعا لهذا التبايُن والاختلاف في تحديد معنى الدين لغةً أُثيرت مسألة عدم أصالة هذه الكلمة في اللغة العربية، وأنها دخيلة من لغات كالعبرية أو الفارسية.
والمتصفِّح في اشتقاق هذه الكلمة ووجوه تصريفها يستشف من هذا الاختلاف الظاهر تقاربا شديدًا، بل توافقا وانسجاما في جوهر المعنى، إذ يجد أن تنوع هذه المعاني مرده إلى ثلاثة مضامين تكاد تكون متصلة باعتبار أن الكلمة التي يُراد شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات، أو بعبارة أدق إنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب.
إن كلمة الدين تأتي مرة من فعل متعدٍّ بنفسه: دانه يدينه، وأحيانا من فعل متعدٍّ باللام: دان له، وتارة من فعلٍ متعدٍّ بالباء: دان به، وباختلاف الاشتقاق يختلف المضمون الذي تعطيه العبارة.
1- إذا قلنا دانه دينا قصدنا بذلك أنه ملكه، وساسه وقهره، وحاسبه، وجازاه وكافأه. فالدين هنا يأخذ معنى الجلال والملك والتصرف بما هو ميزة الملوك من الملك والتصرف. ومن ذلك: مالك يوم الدين أي يوم المحاسبة والجزاء. وفي الحديث: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" أي حكمها وضبطها، والديَّان الحكم القاضي.
2- وإذا قلنا دان له بمعنى أطاعه وخضع له. فالدين هنا هو الطاعة والخضوع والعبادة، كقوله تعالى: "إنا لمدينون" أي مملوكون.
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له دانه فدان له، أي أجبره على الطاعة فخضع وأطاع.
3- وإذا قلنا دان بالشيء بمعنى أنه اتخذه دينا ومذهبا أي اعتقده أو اعتاده أو تخلق به. فالدين هنا هو المذهب والطريقة التي يلتزم بها الشخص نظريًّا أو عمليا. تقول العرب: ما زال ديني وديدني أي عادتي، والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه، ومن ذلك قولهم دينت الرجل أي وكلته إلى دينه، ولم أعترض عليه فيما يعتنقه.
4- تأكيدًا على هذه المعاني اللغوية فإن كلمة الدين عند العرب تتضمن علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر ويخضع له، فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرا وسلطانا، وحكما وإلزاما، وإذا وُصف بها إلى طبيعة العلاقة بين الطرفين كانت هي الطريقة المنظمة لتلك العلاقة، أو الشكل الذي يمثلها.
إن محاولة تحديد مفهوم الدين لغة يضعنا أمام مجموعة مرادفات تصبُّ بشكل أو بآخر في نفس الاتجاه والذي ينصب حول لزوم الانقياد ففي الاستعمال الأول هو إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني هو التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث هو المبدأ الذي يلتزم الانقياد له3.
تأكيدا لما سبق ذكره فإن كلمة الدين بكل معانيها أصيلة في اللغة العربية، وإن ما ادَّعاه بعض المستشرقين من أنها دخيلة معربة عن العبرية أو الفارسية لا يعد صحيحا.
مع أن هذه التحليلات الاشتقاقية كلها تصبُّ في نفس الاتجاه، وتقرُّ بأصالة المعنى في اللغة لكنها لا تشفي غليلنا في معرفةٍ حقيقية لماهيَّة الدين كما هي في عرف المتدينين، فالبَوْن مازال شاسعا برأي الدكتور عبد الله دراز بين المعنى اللغوي، والمعنى العرفي ذلك أنه ليس كل خضوع وانقياد يسمَّى في العرف تدينا، فخضوع العبد لسيده وطاعة الابن لأبيه وإكبار الخادم لمسئوله لا يجسِّد بأي معنى الدين الذي نعنيه، كما أنه ليس كل اتجاه أو مذهب يسمى دينا.
الدين.. اصطلاحًا
فالدين ظاهرة إنسانية عامة شاملة ملازمة للإنسان حيثما وجد، أقرت به معابد وأهرامات ودور مقدسة، كما شهدت به بقايا ما قبل التاريخ بما حوته من نقوش ورموز وآثار ذات صبغة دينية.
إن المتتبع للظاهرة الدينية عبر التاريخ ليجدها أكثر تعقيدا وتشعبا، تتشابك فيها مفاهيم عديدة تختلف من دين إلى آخر، يتعذَّر فيها حصر الدين في قالب واحد دون الإحاطة بكل الأديان ومعرفة ماهيتها وخاصيتها.
ولقد نرى كيف انعكست الحيرة في تعريفات الدين على المحاولات العديدة التي بذلت لتأسيس مفهومٍ صحيح له، محاوِلةً أن تراعي المقومات الأساسية المشتركة في كل الأديان وتراعي عدم الالتزام بدين معين.
وتتخذ مسألة التعريف خطورتها عندما يكون لها تأثير سلبي على إرساء قوانين دولية تحاول أن تصبغ جميع الأديان بصبغة واحدة، ومع الكمِّ الهائل من الاقتراحات التي قدمت لحل مشكلة تعريف الدين بما تتفق عليه جميع الأديان إلا أنها ما زالت بعيدة عن تحقيق المراد من إرساء إطار مشترك تجتمع حوله الأديان1.
الدين في الفكر الإسلامي
يجدر بنا في البداية أن نتتبع كلمة الدين في اللغة مما قد يفيدنا في إعطاء صورة عامة عن الإطار الذي تشكلت في ضوئه جملة التعريفات المختلفة للفظ الدين في الفكر الإسلامي.
تنطوي كلمة الدين على معانٍ عديدة ومتشعِّبة حتى يبدو لك أنه يستعمل في معاني متباعدة بل متناقضة، فالدين هو الملك وهو الخدمة هو القهر هو الذل هو الإكراه هو الإحسان هو العادة والعبادة وهو السلطان وهو الخضوع هو الإسلام والتوحيد وهو اسم لكل ما يُعتقد أو لكل ما يُتعبَّد به2.
وتبعا لهذا التبايُن والاختلاف في تحديد معنى الدين لغةً أُثيرت مسألة عدم أصالة هذه الكلمة في اللغة العربية، وأنها دخيلة من لغات كالعبرية أو الفارسية.
والمتصفِّح في اشتقاق هذه الكلمة ووجوه تصريفها يستشف من هذا الاختلاف الظاهر تقاربا شديدًا، بل توافقا وانسجاما في جوهر المعنى، إذ يجد أن تنوع هذه المعاني مرده إلى ثلاثة مضامين تكاد تكون متصلة باعتبار أن الكلمة التي يُراد شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات، أو بعبارة أدق إنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب.
إن كلمة الدين تأتي مرة من فعل متعدٍّ بنفسه: دانه يدينه، وأحيانا من فعل متعدٍّ باللام: دان له، وتارة من فعلٍ متعدٍّ بالباء: دان به، وباختلاف الاشتقاق يختلف المضمون الذي تعطيه العبارة.
1- إذا قلنا دانه دينا قصدنا بذلك أنه ملكه، وساسه وقهره، وحاسبه، وجازاه وكافأه. فالدين هنا يأخذ معنى الجلال والملك والتصرف بما هو ميزة الملوك من الملك والتصرف. ومن ذلك: مالك يوم الدين أي يوم المحاسبة والجزاء. وفي الحديث: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" أي حكمها وضبطها، والديَّان الحكم القاضي.
2- وإذا قلنا دان له بمعنى أطاعه وخضع له. فالدين هنا هو الطاعة والخضوع والعبادة، كقوله تعالى: "إنا لمدينون" أي مملوكون.
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له دانه فدان له، أي أجبره على الطاعة فخضع وأطاع.
3- وإذا قلنا دان بالشيء بمعنى أنه اتخذه دينا ومذهبا أي اعتقده أو اعتاده أو تخلق به. فالدين هنا هو المذهب والطريقة التي يلتزم بها الشخص نظريًّا أو عمليا. تقول العرب: ما زال ديني وديدني أي عادتي، والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه، ومن ذلك قولهم دينت الرجل أي وكلته إلى دينه، ولم أعترض عليه فيما يعتنقه.
4- تأكيدًا على هذه المعاني اللغوية فإن كلمة الدين عند العرب تتضمن علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر ويخضع له، فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرا وسلطانا، وحكما وإلزاما، وإذا وُصف بها إلى طبيعة العلاقة بين الطرفين كانت هي الطريقة المنظمة لتلك العلاقة، أو الشكل الذي يمثلها.
إن محاولة تحديد مفهوم الدين لغة يضعنا أمام مجموعة مرادفات تصبُّ بشكل أو بآخر في نفس الاتجاه والذي ينصب حول لزوم الانقياد ففي الاستعمال الأول هو إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني هو التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث هو المبدأ الذي يلتزم الانقياد له3.
تأكيدا لما سبق ذكره فإن كلمة الدين بكل معانيها أصيلة في اللغة العربية، وإن ما ادَّعاه بعض المستشرقين من أنها دخيلة معربة عن العبرية أو الفارسية لا يعد صحيحا.
مع أن هذه التحليلات الاشتقاقية كلها تصبُّ في نفس الاتجاه، وتقرُّ بأصالة المعنى في اللغة لكنها لا تشفي غليلنا في معرفةٍ حقيقية لماهيَّة الدين كما هي في عرف المتدينين، فالبَوْن مازال شاسعا برأي الدكتور عبد الله دراز بين المعنى اللغوي، والمعنى العرفي ذلك أنه ليس كل خضوع وانقياد يسمَّى في العرف تدينا، فخضوع العبد لسيده وطاعة الابن لأبيه وإكبار الخادم لمسئوله لا يجسِّد بأي معنى الدين الذي نعنيه، كما أنه ليس كل اتجاه أو مذهب يسمى دينا.
الدين.. اصطلاحًا
التدين نزعة مغروسة في أعماق النفس البشرية
فإذا كان هذا شأن الدين في اللغة، فكيف يكون حاله في اصطلاح الفكر الإسلامي؟
ثمَّة ملاحظة جديرة بالتذكير، وهي أن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام المثل بالمثل، بل هو ما أبدعته العقلية الإسلامية في محاولتها لإسقاط الإسلام على الواقع وتطبيقه، فهو بذلك محكوم بالأطر الزمانية والمكانية.
فالفكر الإسلامي هو اجتهاد عقلي في فهم النصوص قد يخطئ ويصيب فهو غير معصوم في ذلك كله، الفرق بين الإسلام وبين الفكر الإسلامي هو الفرق بين ما ينسب إلى الله وما ينسب للإنسان، والعلاقة بينهما هي علاقة بين طرفين أحدهما قام على الآخر واعتمد عليه، ولكن لا على أن يكون مطابقا له تمام التطابق4.
جاء في تعريف إخوان الصفا أن الدين (هو شيئان اثنان أحدهما الأصل وملاك الأمر، وهو الاعتقاد في الضمير والسر. والآخر هو الفرع المبني عليه القول والعمل في الجهر والإعلان)5.
لقد أوضح الجرجاني -بشكل جلي- الفرق بين الدين والملة فهما عنده متحدان بالذات، ومختلفان بالاعتبار، فإن الشريعة من حيث إنها تُطاع تسمى دينا، ومن حيث إنها تُجمع تسمى ملة، ومن حيث إنها يُرجع إليها تسمى مذهبا. وقيل الفرق بين الملة والدين والمذهب: أن الدين منسوب إلى الله تعالى والملة منسوبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمذهب منسوب إلى المجتهد6.
أما أشهر تعريف للدين في الفكر الإسلامي وأكثره تداولا ما نُسب إلى التهانوي في قوله: إنه (وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال، ويطلق على ملة كل نبي، وقد يخص بالإسلام كما في قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، ويضاف إلى الله عز وجل لصدوره عنه، وإلى النبي لظهوره منه وإلى الأمة لتدينهم به وانقيادهم له)7.
ويمكن تلخيصه بأن الدين هو وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات.
يبدو من التعريف الإسلامي للدين أنه حصر مسمى الدين في دائرة الأديان الصحيحة، المنبثقة من الوحي الإلهي، وهي التي تتخذ معبودا واحدا هو الخالق المهيمن على كل شيء فالديانة الطبيعية التي تستند إلى العقل، والديانات الخرافية التي هي ثمرة الأوهام والأساطير، والديانات الوثنية التي تتخذ من التماثيل آلهة لا ينطبق عليها تعريف الدين مع أن القرآن الكريم قد سماها كذلك حيث يقول: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا" ويقول: "لكم دينكم ولي دين".
معنى الدين في الفكر المسيحي
فإذا كان هذا شأن الدين في اللغة، فكيف يكون حاله في اصطلاح الفكر الإسلامي؟
ثمَّة ملاحظة جديرة بالتذكير، وهي أن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام المثل بالمثل، بل هو ما أبدعته العقلية الإسلامية في محاولتها لإسقاط الإسلام على الواقع وتطبيقه، فهو بذلك محكوم بالأطر الزمانية والمكانية.
فالفكر الإسلامي هو اجتهاد عقلي في فهم النصوص قد يخطئ ويصيب فهو غير معصوم في ذلك كله، الفرق بين الإسلام وبين الفكر الإسلامي هو الفرق بين ما ينسب إلى الله وما ينسب للإنسان، والعلاقة بينهما هي علاقة بين طرفين أحدهما قام على الآخر واعتمد عليه، ولكن لا على أن يكون مطابقا له تمام التطابق4.
جاء في تعريف إخوان الصفا أن الدين (هو شيئان اثنان أحدهما الأصل وملاك الأمر، وهو الاعتقاد في الضمير والسر. والآخر هو الفرع المبني عليه القول والعمل في الجهر والإعلان)5.
لقد أوضح الجرجاني -بشكل جلي- الفرق بين الدين والملة فهما عنده متحدان بالذات، ومختلفان بالاعتبار، فإن الشريعة من حيث إنها تُطاع تسمى دينا، ومن حيث إنها تُجمع تسمى ملة، ومن حيث إنها يُرجع إليها تسمى مذهبا. وقيل الفرق بين الملة والدين والمذهب: أن الدين منسوب إلى الله تعالى والملة منسوبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمذهب منسوب إلى المجتهد6.
أما أشهر تعريف للدين في الفكر الإسلامي وأكثره تداولا ما نُسب إلى التهانوي في قوله: إنه (وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال، ويطلق على ملة كل نبي، وقد يخص بالإسلام كما في قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، ويضاف إلى الله عز وجل لصدوره عنه، وإلى النبي لظهوره منه وإلى الأمة لتدينهم به وانقيادهم له)7.
ويمكن تلخيصه بأن الدين هو وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات.
يبدو من التعريف الإسلامي للدين أنه حصر مسمى الدين في دائرة الأديان الصحيحة، المنبثقة من الوحي الإلهي، وهي التي تتخذ معبودا واحدا هو الخالق المهيمن على كل شيء فالديانة الطبيعية التي تستند إلى العقل، والديانات الخرافية التي هي ثمرة الأوهام والأساطير، والديانات الوثنية التي تتخذ من التماثيل آلهة لا ينطبق عليها تعريف الدين مع أن القرآن الكريم قد سماها كذلك حيث يقول: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا" ويقول: "لكم دينكم ولي دين".
معنى الدين في الفكر المسيحي
الدين والفكر المسيحي
أصل كلمة الدين من دان، وهو اسم عبري معناه قاضٍ، وهو علم كان اسمَ خامس أبناء يعقوب، ولدته له "بلهة"8. كما ورد في الإنجيل دان يدين، دين ودينونة: تطلق على حكم الله على الناس بحسب أعمالهم.
وقد اختص يسوع المسيح بصفة الدينونة فهو الديان الذي يحاسب جميع البشر عن أعمالهم في الجسد خيرا كانت أم شرا، وهذه الدينونة عامة وشاملة، وحكم هذه الدينونة نهائي، ولا يقبل النقض والاستئناف. وطبقا لهذا الحكم يدخل الأبرار إلى أمجاد ملكوت المسيح ومسراتها، ويحشر الأشرار إلى الظلمة الخارجية واليأس الأبدي9.
ترد كلمة religion بمعنى نشاطات إنسانية يهتم بها ويمارسها جميع البشر وفي كل البقاع. وفي اللاتينية ترد هذه الكلمة مجزأة كما يلي rel L igo وقد اختلف العلماء عند إرجاع هذه الكلمة إلى جذورها، فقد اقترح الباحث الروماني سيسرو أن الجذر leg يعني المراقبة أو الملاحظة وخاصة مراقبة الأجرام السماوية أو الإلهامات السماوية الدينية.
أما سيرفيوس فله رأي مخالف؛ فالكلمة جاءت من جذر آخر هو lig وتعني الرابطة أو العلاقة المشتركة بين الإنساني والإلهي، ويمكننا اعتماد التفسيرين كما فعل القديس أوغسطين الكبير إذ رأى أن كلمة دين religion تتضمن المعنيين السابقين.
ولكن إذا تفحصنا الكلمة اليونانية التي تعني أيضا الدين فإن ترجمتها الحرفية هي الاستلهام والتكهُّن، عن طريق ممارسة الشعائر والمراقبة الدقيقة وهذه لا تعبر بصدق عن ما تحدث به المسيح بأن ملكوت السماوات لا يأتي عن طريق التكهن، ولا عن طريق الطقوس الكلاسيكية إن ملكوت السماوات يتحقق بتحرر الإنسان من الداخل من القلب من الشعور وليس بالمظاهر الخارجية 10.
والشائع في الفكر المسيحي أن كلمة religion تعني علاقة متينة بين النفس الإنسانية والذات الإلهية المقدسة، ولكن علاقة كهذه تعد ثابتة كالطريق أو الطريقة غير خاضعة للتغيير أو التطور11.
إلى جانب هذا التعريف المسيحي للدين الذي اقتصر على تعريف الدين حسب النظرة المسيحية، هناك تعريفات أتى بها الفلاسفة الغربيون، وهي مع وفرتها أكثر من أن تحصى، ومع اختلافها وتباينها فإنها في دراستها للأديان كانت تتخذ من المسيحية نموذجا للحديث سواء ما جاءت في صورة مدح للدين أو انتقاص من شأنه؛ لذلك لا تعدو أن تكون ضمن المعنى المسيحي للدين لا يجد ماكسيم رودنسون Maxime Rodinson حرجا من الاعتراف بذلك بقوله بأن الغربيين ميالون بطبعهم إلى الحكم على جميع الأديان بحسب النموذج الذي اعتادوا على استعماله، وهو النموذج المسيحي12.
ولتوضيح ذلك نورد بعض التعريفات، عرف سبنسر الديانة بأنها نوع من الإحساس يجعلنا نشعر بأننا نسبح في بحر من الأسرار. أما فيورباخ Feurbach فقد رد الدين إلى غريزة تدفعنا نحو السعادة. وكان برغسون يرى في الديانة نوعا من رد الفعل، أو الهجوم المعاكس، تقوم به الطبيعة ضد ما قد يتأتى عن استعمال العقل من انحطاط في الفرد وتفكُّك في المجتمع13.
أما باسستيد فقد حاول أن يوسِّع من دائرة الدين حيث بدأ مسيرته الفكرية بدراسة مشاكل الحياة الصوفية 1931، وعناصر علم الاجتماع الديني 1935 فالدين هو أولا نشاط رمزي يتميز بأسلوب خاص به، ويحمل بُعدًا عاطفيًّا. إنه نشاط رمزي ليس مراده فقط أداء شعائر وتزكية عقائد بل أن يفهم بشكل عام، وكأنه نشاط ثقافي تام يتكلم عدة لغات14.
والملاحظ أن ماكس ميلر كان أشد تضييقا لهذه الدائرة، حتى قال: إن الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه هو حب الله، فهذه العبارة لا تنطبق في حرفيتها إلا على نوع من الأديان يفصل بين العقيدة والعقل فصلا تاما، ويفرض على معتنقيه أن يؤمنوا بما لا تقبله عقولهم، ولا تتصوره أذهانهم. وهذا التعريف أقرب للديانة المسيحية من غيرها15.
والحق أن الغربيين ميالون -كما سبق أن ذكرنا- إلى الحكم على جميع الأديان بحسب النموذج الذي ألفوه كثيرا وهو المسيحية، وهنا يتجاوز الإسلام المسيحية والبوذية أيضا، وينشأ الاختلاف من أن الإسلام لا يقدم نفسه كمجرد رابطة بين المؤمنين الذين يعترفون بالحقيقة ذاتها وحسب بل كمجتمع شامل ونظام دولة.
لقد انبثقت المسيحية كما يذكر Maxime Rodinsone كنحلة صغيرة في ولاية بعيدة عن المركز في إمبراطورية شاسعة، ولم يبتغ مؤسس المسيحية إنشاء دولة أبدا، بل ألحّ على ضرورة احترام أطر الدولة القائمة، لقد أراد أن يعلم الناس أن يعملوا لخلاصهم ولا شيء أكثر، فغاية المسيحية المثلى بناء كنيسة 16.
يبدو من التعريفات المسيحية سواء كانت من رجال دين أو فلاسفة أنها أفرغت من مضامين الدين الأساسية، وحلت محلها مفاهيم تمثل نظرة إيديولوجية قاصرة، ولم يفلح الفلاسفة في وضع تعريف جامع للدين يمكن من خلاله تجاوز النموذج المسيحي. ونحن نقر بالقصور والعجز الذي أصاب الفكر الغربي المسيحي في وضع تعريف للدين شامل، ومن ثم فهم الظاهرة الدينية، وهذا يعود إلى انخراط الباحثين الغربيين في أحد تيارين :
- إما تيار الاستخفاف بالأديان واتهامها في كل ما جاءت به، وفاء بما يزعم من احترام العقل وتقديس حريته الفكرية.
- أو تيار الانتصار الأعمى والدفاع عن الديانة المسيحية مع اعتبارها نمطا نموذجيا في دراسة الأديان، وهذا ينطبق بصفة خاصة على تعريفات الدين عند كل من ماكس ميلر وهيجل حتى أضحى هذا النمط الفكري شبيها جدًّا بموقف الباحثين اللاهوتيين المسيحيين.
إن قصور هذه النظرة في الفكر الغربي يكمُن -إضافة إلى استحضار النموذج المسيحي- في أن الفلاسفة الغربيين لم يعتمدوا في دراساتهم على الحقائق التجريبية للأديان، أي لم يلتفتوا إلى الدين في جانبه الحي الفعال، وهذا من شأنه أن يخلف خللا منهجيا هائلا فطريقة البحث في فرع معين تنبع من طبيعة الموضوع.
لقد اقتصرت الأبحاث الغربية في الأديان على دراسة الآثار التي يتركها الدين على المستوى الفردي والجماعي، وبهذا عجزت عن ملامسة طبيعة الدين وجوهره، لم يسلم من هذا القصور بعض الباحثين المعاصرين للدين؛ إذ أنهم لا يتميزون عما سبقهم إلا في أنهم قد رتبوا بعض الأفكار الرئيسية المتعلقة بالدين، وتناولوها بالتعليق والربط والتحليل، ثم اتخذوا لها ألقابا أو عناوين مختلفة. وكلها في الواقع لم تتخذ التجربة الدينية الفعلية كنقطة بدء، ولم تستفد بهذا في بحثها ودراستها.
إن القصور الذي خلفه تعريف الدين في الغرب مرده إلى دراسة الدين مرتبطا بالأهداف التي يحققها سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. فبرزت آراء فلسفية عديدة تنظر إلى أثر الدين والمنفعة التي يسعى إلى تحقيقها وليس إلى ماهيته وطبيعته. ويمكن حصر الأهداف -التي عُنى بها الفلاسفة الغربيون- في مجملها وفق المحاور الثلاثة الآتية :
- الهدف الاجتماعي: يمثل الدين مستودعا للقيم الأخلاقية، فالدين برأي كانط يسعى إلى إسداء خدمة نفعية لا يقدر عليه غيره برعايته لأهم مصالح الإنسانية متمثلة في وحدة مشتركة للمنظومة الأخلاقية، يتلاقى حولها بنو البشر عبر عنها كانط بالقانون الأخلاقي العالمي.
وقد يكون كانط محقا فيما ذهب إليه ولكنه فيما يبدو قد قلص دائرة وظيفة الدين وقيد مجال خدمته، بحصره على الجانب الأخلاقي. إن ما يتطلع إليه المرء من ربه حتى في دائرة الأخلاق نفسها لا يقتصر على أن يجعل الخير واجبا بل هو يرجو إلى جانب ذلك عونه وتوفيقه على استدامة الصلاح و الحياة الطيبة، كما أنه يشعر بحاجته إلى الله في مجالات كثيرة أخرى تضمنها التجربة الدينية.
ومع أهمية الأخلاق في المنظومة الدينية لدرجة أضحت بعض الديانات منظومات أخلاقية خالصة تكاد تخلو من إشارات عقائدية كالبوذية فأصبحت عند بعض الباحثين مذهبا أخلاقيا. ولكن هذا لا يعني الادعاء بأن الأخلاق هي جوهر الدين17.
لقد شجع المسيحيون الاتجاه الأخلاقي للدين فرسموا للمسيحية أسمى صيغة خلقية، ولكن يؤخذ على هذا الرأي استبعاده للعناصر النظرية والعاطفية في الحياة الأخلاقية أي أنهم يُقصون أجزاء من الدين.
إن التأكيد على الواجب الأخلاقي وحده قد ينفي الشعور بالواجب نحو الله و الاستغناء عنه، فالتعاليم الأخلاقية الإسلامية ترنو إلى تحقيق سعادة الإنسان بقدر ما ترنو إلى رعاية مصالح الآخرين، وهي كما يذكر مالك بن نبي تدفع الفرد على أن ينشد دائما ثواب الله قبل أن يهدف إلى تحقيق فائدة بعينها18.
فالدين ظاهرة سوسيولوجية تضطلع بأدوار عديدة ليست أخلاقية فحسب بل تمتدُّ إلى أصعدة سياسية واقتصادية، وعلى الباحث أن يدرس هذه الأدوار بذاتها، فالمطلوب علميا هو درس ما يحدث في المجتمع، وتحديد نسبة الحدث الديني وقوته، وتبيان أثره وتأثيره، وخصوصا تأثره بالمجتمع الذي يعتنقه وهذا موضوع علم الاجتماع الديني19.
وهنا يتضح القصور في فهم الظاهرة الدينية، باعتبارها وليدة المجتمع فهو الذي ينتج الظاهرة الدينية ويوجهها فهي معرفة أنتجها البشر، لا وحيا ولا سرا يتعذر فهمه.
تبعا لما سبق فإن العقائد الدينية هي من إنتاج مجتمعاتها عبر تغيُّرها وتطورها، وليست من إنتاج أفرادٍ، أو رجال دين، أو أنبياء، أو رسل أو كهنة، أو عرافين.. فهؤلاء الأفراد الذين يحترفون المهنة الدينية المقدسة هم من المجتمع، وهم يمثلون المقدس في الحياة الاجتماعية؛ لذلك فإننا لا نكاد نعثر في قاموس علم الأديان المقارن الغربي على مفاهيم حول النبي أو الرسول؛ لأنه وفق الأطر المنهجية المتبعة يعجز هذا العلم عن شرح هذه الظواهر؛ فيفضي ذلك إلى إقصائها عمدا من قاموسه.
وهذا من شأنه أن يخلف نقصا فظيعا في دراسة الظاهرة الدينية بتجريدها من المعاني الباطنية التي تميزها وبذلك يلغي المعرفة الدينية الخالصة.
- الهدف نفسي وعاطفي: يضطلع الدين بوظيفة سامية في تلبية حاجات نفسية وعاطفية، فالطقوس الدينية والشعائر التعبدية التي يقوم بها المتدين لها أبلغ التأثير في تلبية هذه الحاجات، وفي هذا الإطار تتبلور المواضيع الكبرى للدين كالعبادات والطقوس الدينية.
تولى الاهتمام بهذا الهدف بشكل خاص علم النفس الديني الغربي، ومع تقديمه لمادة غزيرة خاصة في بيان حاجة المتدين الملحة لإشباع حاجاته من خلال قيامه بالطقوس الدينية فإن الفكر الغربي نظر إلى الدين باعتباره النفعي من حيث إشباعه لأغراض نفسية. وتغاضى عن المعيار القيمي الذي يميز الدين.
- فكري عرفاني: يسعى المتدين إلى التطلع إلى اليقين البرهاني والساكن النفس إلى العقد الإيماني في اعتلاء العروة الوثقى؛ فيسمو سره على القدس لينال من روح الاتصال20.
ومن أشهر من عبر عن هذا الهدف الذي يرجى من الدين هيجل الذي عرف الدين بقوله: إنه المعرفة التي تكتسبها النفس المحدودة لجوهرها كروح مطلق. ويدلل هيجل على فكرته على أساس أن كل الديانات إنما تتطلع إلى تحقيق اتحاد الألوهية بالإنسانية، وبناء على ذلك فإن تنوع الديانات في نظر هيجل كأنها مرت بأطوار تدريجية لتحقيق هذه الوحدة حتى نصل إلى المسيحية التي تجسِّد هذه الوحدة فهي قمة البناء21.
والمؤكد أن الدين في تاريخه الطويل ظل بجانب الإنسان يمده بإجابات على الأسئلة ليشبع نهمه المحيرة والمتعلقة أساسا بنفسه وبالعالم، يتضح ذلك جليا في الديانات السماوية الكبرى. لقد أجاب الدين على أسئلة كثيرة طالما شغلت الإنسان وأقَضَّت مضجعه، ومع سذاجة الإجابات في بعض الديانات البدائية لا تدعو مطلقًا إلى الاستخفاف بالدين ومع ما قدمه الدين من مضمون فكري أو عرفاني فإن هذا كله لا يعبر عن مخزون الدين كله وإلا اعتبرت الفلسفة دينا.
إذن لا يمكن التعويل على التعريفات المسيحية الغربية للدين؛ لأنها مبنية على الشعور النفسي والإحساس الداخلي، فهي إما غير علمية وإما ناقصة ومتحيزة للنموذج المسيحي لا تستطيع أن تفلت منه، وهي بذلك لا تفي بالغرض، وهذا ينطبق على مصطلحات دينية لم يستطع الفكر الغربي الإلمام بمضمونها، وسبر أغوارها كالوحي والنبوة والعرفان ونحوها.
ومن أجل تجاوز هذا القصور في تعريف الدين يقترح جارودي إلى ضرورة الاستعانة بالعارفين والحكماء من أجل معرفة أكبر لجوهر الدين وأنساقه 22.
وفي خضم هذه التعريفات المسيحية والإسلامية ألا يمكن تحديد ماهية الدين نستشف منها الخصائص والعناصر الجوهرية التي تميز النزعة الدينية أو الشعور الديني بوجه عام. إننا نعتقد أن عبد الله دراز وُفِّق إلى حد كبير في اكتشاف هذه الخصائص التي لا تقصي أي دين عرفه الإنسان، فالدين ينظر إليه أولا من حيث هو حالة نفسية داخلية بمعنى التدين، فهو الاعتقاد بوجود ذات -أو ذوات غيبية - علوية لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشئون التي تعنى الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد وبعبارة موجزة هو الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة. أما إذا نظرنا إليه من حيث هو حقيقة خارجة فالدين هنا هو جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها23.
أصل كلمة الدين من دان، وهو اسم عبري معناه قاضٍ، وهو علم كان اسمَ خامس أبناء يعقوب، ولدته له "بلهة"8. كما ورد في الإنجيل دان يدين، دين ودينونة: تطلق على حكم الله على الناس بحسب أعمالهم.
وقد اختص يسوع المسيح بصفة الدينونة فهو الديان الذي يحاسب جميع البشر عن أعمالهم في الجسد خيرا كانت أم شرا، وهذه الدينونة عامة وشاملة، وحكم هذه الدينونة نهائي، ولا يقبل النقض والاستئناف. وطبقا لهذا الحكم يدخل الأبرار إلى أمجاد ملكوت المسيح ومسراتها، ويحشر الأشرار إلى الظلمة الخارجية واليأس الأبدي9.
ترد كلمة religion بمعنى نشاطات إنسانية يهتم بها ويمارسها جميع البشر وفي كل البقاع. وفي اللاتينية ترد هذه الكلمة مجزأة كما يلي rel L igo وقد اختلف العلماء عند إرجاع هذه الكلمة إلى جذورها، فقد اقترح الباحث الروماني سيسرو أن الجذر leg يعني المراقبة أو الملاحظة وخاصة مراقبة الأجرام السماوية أو الإلهامات السماوية الدينية.
أما سيرفيوس فله رأي مخالف؛ فالكلمة جاءت من جذر آخر هو lig وتعني الرابطة أو العلاقة المشتركة بين الإنساني والإلهي، ويمكننا اعتماد التفسيرين كما فعل القديس أوغسطين الكبير إذ رأى أن كلمة دين religion تتضمن المعنيين السابقين.
ولكن إذا تفحصنا الكلمة اليونانية التي تعني أيضا الدين فإن ترجمتها الحرفية هي الاستلهام والتكهُّن، عن طريق ممارسة الشعائر والمراقبة الدقيقة وهذه لا تعبر بصدق عن ما تحدث به المسيح بأن ملكوت السماوات لا يأتي عن طريق التكهن، ولا عن طريق الطقوس الكلاسيكية إن ملكوت السماوات يتحقق بتحرر الإنسان من الداخل من القلب من الشعور وليس بالمظاهر الخارجية 10.
والشائع في الفكر المسيحي أن كلمة religion تعني علاقة متينة بين النفس الإنسانية والذات الإلهية المقدسة، ولكن علاقة كهذه تعد ثابتة كالطريق أو الطريقة غير خاضعة للتغيير أو التطور11.
إلى جانب هذا التعريف المسيحي للدين الذي اقتصر على تعريف الدين حسب النظرة المسيحية، هناك تعريفات أتى بها الفلاسفة الغربيون، وهي مع وفرتها أكثر من أن تحصى، ومع اختلافها وتباينها فإنها في دراستها للأديان كانت تتخذ من المسيحية نموذجا للحديث سواء ما جاءت في صورة مدح للدين أو انتقاص من شأنه؛ لذلك لا تعدو أن تكون ضمن المعنى المسيحي للدين لا يجد ماكسيم رودنسون Maxime Rodinson حرجا من الاعتراف بذلك بقوله بأن الغربيين ميالون بطبعهم إلى الحكم على جميع الأديان بحسب النموذج الذي اعتادوا على استعماله، وهو النموذج المسيحي12.
ولتوضيح ذلك نورد بعض التعريفات، عرف سبنسر الديانة بأنها نوع من الإحساس يجعلنا نشعر بأننا نسبح في بحر من الأسرار. أما فيورباخ Feurbach فقد رد الدين إلى غريزة تدفعنا نحو السعادة. وكان برغسون يرى في الديانة نوعا من رد الفعل، أو الهجوم المعاكس، تقوم به الطبيعة ضد ما قد يتأتى عن استعمال العقل من انحطاط في الفرد وتفكُّك في المجتمع13.
أما باسستيد فقد حاول أن يوسِّع من دائرة الدين حيث بدأ مسيرته الفكرية بدراسة مشاكل الحياة الصوفية 1931، وعناصر علم الاجتماع الديني 1935 فالدين هو أولا نشاط رمزي يتميز بأسلوب خاص به، ويحمل بُعدًا عاطفيًّا. إنه نشاط رمزي ليس مراده فقط أداء شعائر وتزكية عقائد بل أن يفهم بشكل عام، وكأنه نشاط ثقافي تام يتكلم عدة لغات14.
والملاحظ أن ماكس ميلر كان أشد تضييقا لهذه الدائرة، حتى قال: إن الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه هو حب الله، فهذه العبارة لا تنطبق في حرفيتها إلا على نوع من الأديان يفصل بين العقيدة والعقل فصلا تاما، ويفرض على معتنقيه أن يؤمنوا بما لا تقبله عقولهم، ولا تتصوره أذهانهم. وهذا التعريف أقرب للديانة المسيحية من غيرها15.
والحق أن الغربيين ميالون -كما سبق أن ذكرنا- إلى الحكم على جميع الأديان بحسب النموذج الذي ألفوه كثيرا وهو المسيحية، وهنا يتجاوز الإسلام المسيحية والبوذية أيضا، وينشأ الاختلاف من أن الإسلام لا يقدم نفسه كمجرد رابطة بين المؤمنين الذين يعترفون بالحقيقة ذاتها وحسب بل كمجتمع شامل ونظام دولة.
لقد انبثقت المسيحية كما يذكر Maxime Rodinsone كنحلة صغيرة في ولاية بعيدة عن المركز في إمبراطورية شاسعة، ولم يبتغ مؤسس المسيحية إنشاء دولة أبدا، بل ألحّ على ضرورة احترام أطر الدولة القائمة، لقد أراد أن يعلم الناس أن يعملوا لخلاصهم ولا شيء أكثر، فغاية المسيحية المثلى بناء كنيسة 16.
يبدو من التعريفات المسيحية سواء كانت من رجال دين أو فلاسفة أنها أفرغت من مضامين الدين الأساسية، وحلت محلها مفاهيم تمثل نظرة إيديولوجية قاصرة، ولم يفلح الفلاسفة في وضع تعريف جامع للدين يمكن من خلاله تجاوز النموذج المسيحي. ونحن نقر بالقصور والعجز الذي أصاب الفكر الغربي المسيحي في وضع تعريف للدين شامل، ومن ثم فهم الظاهرة الدينية، وهذا يعود إلى انخراط الباحثين الغربيين في أحد تيارين :
- إما تيار الاستخفاف بالأديان واتهامها في كل ما جاءت به، وفاء بما يزعم من احترام العقل وتقديس حريته الفكرية.
- أو تيار الانتصار الأعمى والدفاع عن الديانة المسيحية مع اعتبارها نمطا نموذجيا في دراسة الأديان، وهذا ينطبق بصفة خاصة على تعريفات الدين عند كل من ماكس ميلر وهيجل حتى أضحى هذا النمط الفكري شبيها جدًّا بموقف الباحثين اللاهوتيين المسيحيين.
إن قصور هذه النظرة في الفكر الغربي يكمُن -إضافة إلى استحضار النموذج المسيحي- في أن الفلاسفة الغربيين لم يعتمدوا في دراساتهم على الحقائق التجريبية للأديان، أي لم يلتفتوا إلى الدين في جانبه الحي الفعال، وهذا من شأنه أن يخلف خللا منهجيا هائلا فطريقة البحث في فرع معين تنبع من طبيعة الموضوع.
لقد اقتصرت الأبحاث الغربية في الأديان على دراسة الآثار التي يتركها الدين على المستوى الفردي والجماعي، وبهذا عجزت عن ملامسة طبيعة الدين وجوهره، لم يسلم من هذا القصور بعض الباحثين المعاصرين للدين؛ إذ أنهم لا يتميزون عما سبقهم إلا في أنهم قد رتبوا بعض الأفكار الرئيسية المتعلقة بالدين، وتناولوها بالتعليق والربط والتحليل، ثم اتخذوا لها ألقابا أو عناوين مختلفة. وكلها في الواقع لم تتخذ التجربة الدينية الفعلية كنقطة بدء، ولم تستفد بهذا في بحثها ودراستها.
إن القصور الذي خلفه تعريف الدين في الغرب مرده إلى دراسة الدين مرتبطا بالأهداف التي يحققها سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. فبرزت آراء فلسفية عديدة تنظر إلى أثر الدين والمنفعة التي يسعى إلى تحقيقها وليس إلى ماهيته وطبيعته. ويمكن حصر الأهداف -التي عُنى بها الفلاسفة الغربيون- في مجملها وفق المحاور الثلاثة الآتية :
- الهدف الاجتماعي: يمثل الدين مستودعا للقيم الأخلاقية، فالدين برأي كانط يسعى إلى إسداء خدمة نفعية لا يقدر عليه غيره برعايته لأهم مصالح الإنسانية متمثلة في وحدة مشتركة للمنظومة الأخلاقية، يتلاقى حولها بنو البشر عبر عنها كانط بالقانون الأخلاقي العالمي.
وقد يكون كانط محقا فيما ذهب إليه ولكنه فيما يبدو قد قلص دائرة وظيفة الدين وقيد مجال خدمته، بحصره على الجانب الأخلاقي. إن ما يتطلع إليه المرء من ربه حتى في دائرة الأخلاق نفسها لا يقتصر على أن يجعل الخير واجبا بل هو يرجو إلى جانب ذلك عونه وتوفيقه على استدامة الصلاح و الحياة الطيبة، كما أنه يشعر بحاجته إلى الله في مجالات كثيرة أخرى تضمنها التجربة الدينية.
ومع أهمية الأخلاق في المنظومة الدينية لدرجة أضحت بعض الديانات منظومات أخلاقية خالصة تكاد تخلو من إشارات عقائدية كالبوذية فأصبحت عند بعض الباحثين مذهبا أخلاقيا. ولكن هذا لا يعني الادعاء بأن الأخلاق هي جوهر الدين17.
لقد شجع المسيحيون الاتجاه الأخلاقي للدين فرسموا للمسيحية أسمى صيغة خلقية، ولكن يؤخذ على هذا الرأي استبعاده للعناصر النظرية والعاطفية في الحياة الأخلاقية أي أنهم يُقصون أجزاء من الدين.
إن التأكيد على الواجب الأخلاقي وحده قد ينفي الشعور بالواجب نحو الله و الاستغناء عنه، فالتعاليم الأخلاقية الإسلامية ترنو إلى تحقيق سعادة الإنسان بقدر ما ترنو إلى رعاية مصالح الآخرين، وهي كما يذكر مالك بن نبي تدفع الفرد على أن ينشد دائما ثواب الله قبل أن يهدف إلى تحقيق فائدة بعينها18.
فالدين ظاهرة سوسيولوجية تضطلع بأدوار عديدة ليست أخلاقية فحسب بل تمتدُّ إلى أصعدة سياسية واقتصادية، وعلى الباحث أن يدرس هذه الأدوار بذاتها، فالمطلوب علميا هو درس ما يحدث في المجتمع، وتحديد نسبة الحدث الديني وقوته، وتبيان أثره وتأثيره، وخصوصا تأثره بالمجتمع الذي يعتنقه وهذا موضوع علم الاجتماع الديني19.
وهنا يتضح القصور في فهم الظاهرة الدينية، باعتبارها وليدة المجتمع فهو الذي ينتج الظاهرة الدينية ويوجهها فهي معرفة أنتجها البشر، لا وحيا ولا سرا يتعذر فهمه.
تبعا لما سبق فإن العقائد الدينية هي من إنتاج مجتمعاتها عبر تغيُّرها وتطورها، وليست من إنتاج أفرادٍ، أو رجال دين، أو أنبياء، أو رسل أو كهنة، أو عرافين.. فهؤلاء الأفراد الذين يحترفون المهنة الدينية المقدسة هم من المجتمع، وهم يمثلون المقدس في الحياة الاجتماعية؛ لذلك فإننا لا نكاد نعثر في قاموس علم الأديان المقارن الغربي على مفاهيم حول النبي أو الرسول؛ لأنه وفق الأطر المنهجية المتبعة يعجز هذا العلم عن شرح هذه الظواهر؛ فيفضي ذلك إلى إقصائها عمدا من قاموسه.
وهذا من شأنه أن يخلف نقصا فظيعا في دراسة الظاهرة الدينية بتجريدها من المعاني الباطنية التي تميزها وبذلك يلغي المعرفة الدينية الخالصة.
- الهدف نفسي وعاطفي: يضطلع الدين بوظيفة سامية في تلبية حاجات نفسية وعاطفية، فالطقوس الدينية والشعائر التعبدية التي يقوم بها المتدين لها أبلغ التأثير في تلبية هذه الحاجات، وفي هذا الإطار تتبلور المواضيع الكبرى للدين كالعبادات والطقوس الدينية.
تولى الاهتمام بهذا الهدف بشكل خاص علم النفس الديني الغربي، ومع تقديمه لمادة غزيرة خاصة في بيان حاجة المتدين الملحة لإشباع حاجاته من خلال قيامه بالطقوس الدينية فإن الفكر الغربي نظر إلى الدين باعتباره النفعي من حيث إشباعه لأغراض نفسية. وتغاضى عن المعيار القيمي الذي يميز الدين.
- فكري عرفاني: يسعى المتدين إلى التطلع إلى اليقين البرهاني والساكن النفس إلى العقد الإيماني في اعتلاء العروة الوثقى؛ فيسمو سره على القدس لينال من روح الاتصال20.
ومن أشهر من عبر عن هذا الهدف الذي يرجى من الدين هيجل الذي عرف الدين بقوله: إنه المعرفة التي تكتسبها النفس المحدودة لجوهرها كروح مطلق. ويدلل هيجل على فكرته على أساس أن كل الديانات إنما تتطلع إلى تحقيق اتحاد الألوهية بالإنسانية، وبناء على ذلك فإن تنوع الديانات في نظر هيجل كأنها مرت بأطوار تدريجية لتحقيق هذه الوحدة حتى نصل إلى المسيحية التي تجسِّد هذه الوحدة فهي قمة البناء21.
والمؤكد أن الدين في تاريخه الطويل ظل بجانب الإنسان يمده بإجابات على الأسئلة ليشبع نهمه المحيرة والمتعلقة أساسا بنفسه وبالعالم، يتضح ذلك جليا في الديانات السماوية الكبرى. لقد أجاب الدين على أسئلة كثيرة طالما شغلت الإنسان وأقَضَّت مضجعه، ومع سذاجة الإجابات في بعض الديانات البدائية لا تدعو مطلقًا إلى الاستخفاف بالدين ومع ما قدمه الدين من مضمون فكري أو عرفاني فإن هذا كله لا يعبر عن مخزون الدين كله وإلا اعتبرت الفلسفة دينا.
إذن لا يمكن التعويل على التعريفات المسيحية الغربية للدين؛ لأنها مبنية على الشعور النفسي والإحساس الداخلي، فهي إما غير علمية وإما ناقصة ومتحيزة للنموذج المسيحي لا تستطيع أن تفلت منه، وهي بذلك لا تفي بالغرض، وهذا ينطبق على مصطلحات دينية لم يستطع الفكر الغربي الإلمام بمضمونها، وسبر أغوارها كالوحي والنبوة والعرفان ونحوها.
ومن أجل تجاوز هذا القصور في تعريف الدين يقترح جارودي إلى ضرورة الاستعانة بالعارفين والحكماء من أجل معرفة أكبر لجوهر الدين وأنساقه 22.
وفي خضم هذه التعريفات المسيحية والإسلامية ألا يمكن تحديد ماهية الدين نستشف منها الخصائص والعناصر الجوهرية التي تميز النزعة الدينية أو الشعور الديني بوجه عام. إننا نعتقد أن عبد الله دراز وُفِّق إلى حد كبير في اكتشاف هذه الخصائص التي لا تقصي أي دين عرفه الإنسان، فالدين ينظر إليه أولا من حيث هو حالة نفسية داخلية بمعنى التدين، فهو الاعتقاد بوجود ذات -أو ذوات غيبية - علوية لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشئون التي تعنى الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد وبعبارة موجزة هو الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة. أما إذا نظرنا إليه من حيث هو حقيقة خارجة فالدين هنا هو جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها23.
الجمعة 24 سبتمبر 2010, 23:06 من طرف نجم الليل الحزين
» حصريا عرض WWE Superstars بتاريخ 2010.09.23 ميجا نسخه RMVB بمساحة 123 ميجا
الجمعة 24 سبتمبر 2010, 23:02 من طرف نجم الليل الحزين
» سلسلة أفضل نساء العالمين 1- // خديجة بن خويلد // رضى الله عنها وأرضها
الجمعة 24 سبتمبر 2010, 23:00 من طرف نجم الليل الحزين
» دعاء ليله القدر2010 للشيخ محمد جبريل:: بأعلي جوده ::وعلي اكثر من سيرفر
الجمعة 24 سبتمبر 2010, 22:57 من طرف نجم الليل الحزين
» حصريا::الفاروق ... بصوت ادريس أبكر::باعلي جوده::على اكثر من سيرفر
الجمعة 24 سبتمبر 2010, 22:55 من طرف نجم الليل الحزين
» ما هو الحب...؟
الثلاثاء 21 سبتمبر 2010, 09:33 من طرف amraya
» فيلم الاثارة و الرعب الدموى The Dark Hours 2005 - بجودة DvdRip - بمساحة 172 ميجا - مترجم - روابط صاروخية
الإثنين 20 سبتمبر 2010, 15:19 من طرف Admin
» حصريا اغنيه راغب علامه وشاكيرا - Good Stuff نسخه راديو Cd Q 320Kpbs
الإثنين 20 سبتمبر 2010, 15:12 من طرف Admin
» حصريا اغنيه اصاله نصري - انا القدس Cd Q 192Kpbs
الإثنين 20 سبتمبر 2010, 15:05 من طرف Admin